البوذية الكلاسيكيّة

كاتب المقال:
Cover Image for: buddhism-classic
يُمكنكم الحصول على هذا الكتاب من خلال إحدى المنصات التالية:

مقدمة

تتبوأ البوذية مكانةً متقدمة من ناحية الإنتشار والعدد بين الديانات الكُبرى، وقد شهدت البوذية انتشاراً واسع النطاق في بدايات القرن العشرين، حيث وصلت إلى القارة الأمريكية الشمالية وانتشرت في أرجاء واسعة من القارة الأوروبية، وقد تحولت من كونها واحدة من بين الديانات الشرقية إلى أن أصبحت إيماناً شائع الإنتشار في معظم الدول الغربية.

على الرغم من وجود إشكالية في تصنيف البوذيّة على أساس كونها ديانة، إلا أنَّها كانت الحاضنة التي تفرعت منها مجموعة كبيرة من الجماعات والفِرق والشيع الدينية الحديثة التي قامت بتبني وإعادة تجميع طقوسها وممارساتها بأشكال مُختلفة، من بين هذه الجماعات نجد: الساينتولوجي (Scientology)، ومجموعة فوروم (FORUM)، ولايف سبرينغ (Lifrspring) وسواها. عدا عن وجود بعض الجماعات أو الفرق التي تفرعت عن البوذية في حُقب تاريخية سالفة من أمثال: زِن (Zen)، نيشرين (Nichren)، وشوشو (Shoshu) وسواها.

التاريخ 

تأسست البوذية على يد سيدارتا غوتاما (٥٦٣ - ٤٨٣ ق.م). إن معنى اسم سيدارتا (Siddharta) هو ”تحقيق الهدف، أو الهدف المُحَقَّق“ في حين أن معنى غوتاما (Gautama) هو ”أفضل بقرة“. كان سيدارتا (أو سيدهارتا) قد وُلد في كنف قبيلة هندوسية تعمل بالزراعة وتستوطن في سفوح جبال الهيمالايا في مدينة لومبيني في دولة نيبال. تذخر السرديات المُختلفة عن سيرته الذاتية بالكثير من الحقائق المتشابكة مع الأساطير التي حيكت عنه.

كان والد سيدارتا المدعو سودودانا (Suddhodana) زعيماً أو أميراً على عشيرة آكيا (Ākya)، وقد حكم من مقره في كابيلاڤاستو (Kapihavastu) على مملكة صغيرة اشتملت على الجزء الشمالي الشرقي من المقاطعات المتحدة التي امتدت جنوبي نيبال؛ يُقال أن والدته التي عُرِفَت بإسم ”مايا“ أو ”مهامايا“ كانت قد حَمَلت به بعد أن رأت في حُلُمٍ بوذا الذي سيأتي في المستقبل وهو منحدر من السماء ليدخل في رحمها بصورة فيل أبيض - هذا هو السبب الذي يقف وراء تقديس الفيل لدى البوذيّين عموماً.

تنقل التقاليد البوذية أن والدة سيدارتا كانت قد فارقت الحياة بعد ولادته بسبعة أيام فقط، وقد انتقلت إلى جنة الإله الهندوسي إندرا (Indra) التي تُعرف بإسم  تراياستريمسا (Trayastriṁśa). تنقل لنا التعاليم البوذية تفاصيل ولادته المثيرة للإهتمام، حيث أن والدته قد وَلَدَته تحت شجرة مثمرة انحنى أحد فروعها لتمسك به بيدها. ويرد أيضاً أن الصبي وُلد حاملاً للعلامات الإثنتان والثلاثين التي كانت تشير إلى المكانة المستقبلية العظيمة التي سيتبوّأها، بالإضافة إلى العلامات الثانوية التي رافقت ولادته، وتظهر العديد من هذه العلامات في الصور المُعاصرة لبوذا مثل النتوء في الجزءالعلوي للجمجمة، الشعر المُجَعَّد، دائرة الشعر المتموضعة بين الحاجبين، وسواها…

تنقل الروايات الأحداث التي يُفترض أنها قد ترافقت مع دخوله إلى المدرسة، فيقال أنَّ المُعلم المدعو ڤيسواميترا (Viśwámitra) كان قد سقط على وجهه إلى الأرض أمامه نتيجةً لروعة مشهد دخوله. بعد ذلك تناول الصبي لوحاً من الخشب وسأل المُعَلِّمَ عن نوع الكتابة التي يود أن يقوم بتعليمه إياها، وقد قام بتعداد أربعة وستين نوعاً مُختلفاً من الكتابة التي لم يكن المُعلم على علمٍ بأسماء الكثير منها. بعد ذلك قام الصبي باستلام زمام الأُمور ليقوم بتعليم المدرسة بأسرها درساً يربط من خلاله بين كُلِّ حرف من أحرف الأبجدية السنسكريتية وبين بعض الحقائق الفلسفية البوذية.

كانت النبوءات التي رافقت ولادته تشير إلى أنَّه إما سيصبح ملكاً عظيماً أو راهباً عظيماً، وهي ما دفع والده إلى إحاطته بكل وسائل الترف ليحاول أن يدفع به إلى أن يصبح ملكاً عظيماً ويدفع عنَّه جميع العلامات الأربع التي قد تقوده نحو الحياة الرهبانية، إلا أنَّ حُب غوتاما للإستطلاع كان قد دفعه إلى طلب القيام برحلة في المناطق الريفية، وهي الرحلة التي أعدَّ لها الملك من خلال إرسال حاشية تتقدم موكب غوتاما لُتبعد جميع الأشخاص الذين يتوافقون مع العلامات الأربعة من المشهد الذي قد يُعاينه غوتاما وهُم بحسب ما يرد في الجاتاكا (Jataka) - أي التعليم العقائدي البوذيّ: ”رجل شيخ، ورجل مريض، ورجل ميّت، وراهب“. على الرغم من الخطوات الإحترازية التي كان الملك قد اتخذها فإن غوتاما كان قد عاين العلامات الأربعة خلال رحلته، فرأى رجلاً شيخاً ليتعلم أنَّ مصير كُل شخص هو أن يتقدم بالعمر ويتهالك. ورأى رجلاً مريضاً، ليتعلم عن هشاشة الحياة. ورأى جنازة رجل ميّت، ليتعلم أنّ مصير كُلِّ حياة هو الموت. ورأى راهباً في وضعية التأمل، مما ساعده على إدراك الحل لجميع تلك المشكلات. تسرد رواية أُخرى أن غوتاما كان قد رأى جميع هذه العلامات في أوقات مختلفة في القصر دون أي ذِكرٍ للرحلة الريفية التي تم الحديث عنها.

في سنته التاسعة والعشرين وبعد أن عاين العلامات الأربعة التي ساهمت في تعميق إدراكه لاضمحلال الأمور الأرضية، قرر أن يُغادر القصر ويلتجئ إلى الغابة ليمارس التأمل النُّسكي المُنفرد بغية الوصول إلى ”الخلود الأسمى“. فقرر بعد ذلك التخلي عن حقه الشرعي في المطالبة بتولي السلطة السياسية، وهجر زوجته وأطفاله ليصبح راهباً يحيا حياة التقشف والتسول ويرتحل من مكانٍ إلى آخر دون هُدىً. كان قد قضى فترة من الزمن في تجربته للديانة البراهمانية (Brahmanism) إلا أنه تعرض لخيبة أمل كبيرة منها. بعد ذلك، اعتكف لفترة من الزمن لكي يمارس التأمل المُكثَّف ليصل إلى الإستنارة التي طال انتظارها، والتي منحته لقب بوذا. قضى الفترة اللاحقة من حياته في الإرتحال الذي ترافق مع تدريس للدين - أو الفلسفة - التي منحته عدة ملايين من الأتباع الذين تبنوا فلسفته هذه خلال القرون التالية.

في العام ٢٤٥ قبل الميلاد، عقد نحو خمسمئة راهب بوذيّ مجمعاً قاموا من خلاله بجمع التقاليد الشفوية التي ترجع إلى ثلاثة قرون، ومن ثمَّ قاموا بوضعها بصورة مكتوبة بلغة بالي ”Pali“. تُعرف هذه الكتابات تحت مُسمى التريبيتاكا (Tripitaka).

شَهِدَت البوذية إنتشاراً واسعاً خلال فترة حكم الملك أسوكا (Asoka ٢٧٤-٢٣٦ قبل الميلاد)، حيث قام بإرسال بعثات تبشيرية إلى سورية ومصر ومقدونيا ووصل إلى حدود بورما وسيريلانكا. في تلك المرحلة، كانت البوذية حركة توحيديّة ناجحة، إلا أنَّ مملكة أسوكا لم تختلف عن مثيلاتها من الممالك التي انقسمت إثر وفاة قائدها العسكري القويّ. خلال فترة قصيرة من وفاته، تعرَّضت المملكة إلى انقسام مبني على التباين الجغرافي والفلسفيّ. وكانت النتيجة هي ظُهور نظامين فكريِّين هما: الثيرڤادا (THERVADA) في الجنوب - وهو النظام الذي حافظ على لغة بالي، ونظام ماهايانا (MAHAYANA) في الشمال - حيث اتخذ هذا النظام اللغة السنسكريتية. تعرض هذان النظامان الفكريّان إلى انقسامات لاحقة أنتجت عدة فرق وأحزاب متفرعة ومختلفة أسست للبوذية المُعاصرة.

إن البوذية ليست ديانة بالمعنى الحرفيّ، ذلك أن الديانة تُعرَّف على أساس أنها إيمان بإلهٍ، أو بكيان إلهي خارق للطبيعة، أو بصلوات، وتقدمات، ومفاهيم عن حياة مستقبلية، وهي الأمور التي تُشكل مُكونات أساسية للديانة. على الرَّغم من أن غوتاما لم يُنكر وُجود الآلهة، إلا أنَّه قام برفضهم وتصنيفهم على اساس أنهم عديمي الفائدة في الحياة اليوميّة. هذا هو السبب الذي يقف وراء تصنيف البوذية وتسميتها على أنها ”إلحاد تطبيقيّ أو عَمَلِيّ“، إلا أنَّه يوجد اعتراض على هذا التصنيف من قِبل بعض الباحثين في الديانات الشرقية، حيث يرفضون وسم البوذية بأنها نوع من الإلحاد التطبيقي، ويقومون بالإشارة إلى أنَّها نوع من الإيمان بوحدة الوجود (Panthiesim) مُشيرين إلى أجزاء مُختلفة من العقائد المرتبطة بالتقمص وسواها.

كان التأثير البوذيّ ملحوظاً في أماكن مُختلفة من العالم. في الولايات المُتحدة، وبشكل خاصّ في الساحل الغربي، تمَّ إنشاء أول معبد بوذيّ أمريكي في سان فرانسيسكو في العام ١٨٩٨. أما في العام ١٩٤٣، فقد تمَّ تأسيس إتحاد الكنائس البوذية الأمريكية بعدد أعضاء يصل إلى ١٠٠،٠٠٠ عضو. كانت نتيجة الإنتشار الواسع للبوذية في الولايات المتحدة ظهور حركة بوذيّة جديدة تحمل إسم نيشيرين شوشو الأمريكية (Nichiren Shoshu) والتي جذبت الكثير من الأمريكيّين غير الآسيويّين. كما شَهِدَت البوذية في أمريكا تحولاً كبيراً آخر تسبَّب بظهور طائفة بوذية جديدة تحمل إسم ”زِن“ (ZEN)، ويوجد فرع لهذه الطائفة في معظم المُدن الكُبرى عبر الولايات المُتحدة. كان انهيار الإتحاد السوفياتي أثراً إيجابياً على انتشار البوذية، بشكل خاص بعد رفع الحظر الذي كان مفروضاً عليها. ابتدأ بناء المعابد البوذية في كل من موسكو وسانت بطرسبرغ ومُدن أُخرى كانت خاضعة للإتحاد السوفياتي. تجدر الإشارة إلى أنَّ البوذيّين يجتمعون تحت راية مؤتمر عامّ يحمل إسم المؤتمر العام للزمالة البوذية العالمية. أما في القارة الأوروبية، فإن البوذيّين يجتمعون تحت راية الإتحاد البوذيّ الأوروبي، الذي يمتلك قواعد في كل من بريطانيا، اسبانيا، بولندا، هولندا، سلوڤینيا، النروج، هنغاريا، بلجيكا، إيطاليا، ألمانيا، فرنسا، كرواتيا، النمسا، البرتغال، السويد، سويسرا، فلندا…

التعاليم

كان غوتاما قد اعتنق فكرة التقمص (Reincarnation) بشكل مُشابه للفكر الهندوسي، فالخلاص هو التحرّر النهائي من دورة إعادة الولادة. إلا أنه كان قد رفض البعض من المفاهيم الهندوسية الأُخرى مثل النظام الطبقي وشرعية الكتابات الڤيديّة.

تتبنى البوذية الفكرة التي يرتكز عليها الفِكر الشرقي ، والتي تقول بأن الجهل هو أصل كُلِّ الشرور. كان غوتاما قد تَوَصَّل إلى طريقةٍ للتخلص من الجهل، ولم تكن تلك الطريقة مشابهة لأيٍّ من الأساليب التي كانت قد وُجِدَت حتى أيامه، بعد أن تأمَّل في قسوة الزهد من ناحية أولى والمتعة الجامحة من ناحية ثانية على أساس أنهما الوسليتان اللتان تُسَهِّلان عملية ضبط النفس والسيطرة عليها، قام برفض كُلٍّ منهما على أساس فشلهما في تدمير ما هو أساسي بالنسبة للطبيعة البشرية، أي الشغف والشهوة. من الممكن أن يتم اختزال فلسفته من خلال الحقائق النبيلة الأربعة التي أدركها:

  1. الحياة مليئة بالمعاناة والألم. إن كُل واحد من الأشخاص الذين يُولدون سيتقدم بالسن ويموت. المعاناة هي إشارة إلى دورة لا تنتهي من الحيوات، لذلك فإن التقمص هو لعنة.
  2. أصل الألم هو الجهل. الأشخاص يجهلون حقيقتهم وحقيقة الحياة، والجهل يُنتج الشهوة والرغبة بالحصول على الأشياء المادية وغير المادية. الشباب الأزلي أو القدرة غير المحدودة أو الفرح المُطلق هي أمور لا وجود لها. الجميع يُعانون بسبب الجهل.
  3. القضاء على المعاناة هو القضاء على الشهوة.
  4. يجب إتِّباع أحد المسالك لكي يتم تحقيق ذلك (أي الإنتهاء من دورة إعادة الولادة).

كان المسلك الذي اقترحه غوتاما مُكوَّناً من ثماني خطوات، وقد عُرِف هذا المسلك عموماً تحت مُسمى ”المسلك الثُّماني الخُطى“ ويتضمن الخطوات التالية: (١) الإيمان السليم. (٢) المشاعر السليمة. (٣) الكلام السليم. (٤) السلوك السليم. (٥) أسلوب الحياة (كسب القوت اليومي) السليم. (٦) الجهد السليم. (٧) الذاكرة السليمة. (٨) التأمل أو التركيز السليم. إن قام الشخص بإتِّباع هذه الخطوات فإنَّه سيصبح من رتبة الأرهات (Arhat). وبذلك يُقضى على الجهل، ويصبح البوذيّ مُهيّأً للدخول إلى النيرڤانا، فالكارما قد سُحِقتَ ودورة إعادة الولادة قد انتهت.

تُمَيِّز البوذية بين خمسة أنماط أو حالات وجودية وهي:

  1. بوذا - أي أولئك الأشخاص الذين تحصلوا على المعرفة المُطلقة والقدرة غير المحدودة، وبعد أن علَّموا الشريعة للآخرين دخلوا إلى النيرڤانا.
  2. بوديساتڤاس (Bodhisattvas) - أي كل أولئك الذين سيصبحون بوذا في المستقبل.
  3. براتيكا بوذا (Pratyeka Buddhas) - أي أولئك الأشخاص الذين تحصَّلوا بشكل شخصي على المعرفة التي تفوق الطبيعة، إلا أنهم لم يقوموا بتمرير هذه المعرفة العظيمة للآخرين بعد.
  4. آرياس (Aryas) - أي أولئك الأشخاص الذين يمضون في طريقهم نحو النيرڤانا.
  5. بريتاغاناس (prithagjanas) - وهي الحالة الوجودية للغالبية العُظمى من التلاميذ والأتباع الذين لم يصلوا إلى تحقيق المعرفة السامية التي لرتبة الأرهات.

بالإضافة إلى تلبية متطلبات المسلك الثُّماني الخُطى، يقوم الرهبان الطامحين إلى أن يكونوا تابعين حقيقيّين ومُخلصين لغوتاما باتّباع عشرة من الوصايا التي تُحَرِّم كُلّ من: (١) القتل. (٢) السرقة. (٣) الزنى. (٤) الكذب. (٥) احتساء المشروبات الكحولية. (٦) تناول الأطعمة أو احتساء المشروبات في فترات الإنقطاع (الصوم) الإلزامي. (٧) الرقص والغناء بالإضافة إلى جميع أشكال الترفيه الدنيويّة. (٨) استخدام العطور أو الحُلِيّ. (٩) النوم على أَسِرَّة وليس على الأرض. (١٠) قبول الصدقات التي تشتمل على عطايا من ذهب أو فضة.

على الرغم من وجود فارق جوهريّ بين البوذيّة وبين الإيمان المسيحي المبني على الإعلان الإلهي، فإنَّه يُمكن أن يتم إجراء مُقارنة بين التعاليم التي يُقدمها كُلٌّ من الفكر المسيحي الكتابي والفكر البوذيّ عن: الله، الخطيئة، الخلاص، المستقبل والأخلاق.

الله

تختلف البوذية عن المسيحية اختلافا صارخاً حيث أن البوذية ترفض فكرة وجود الإله الشخصاني الذي يتَّسِم بأنَّه كُلّي الحضور ومتسامي. ترفض البوذية كَون الله إلهاً شخصانيّاً مُثَلَّث الأقانيم، لذلك فإنَّه يتم الحديث عن الإله على أساس أنه خواء يفتقر إلى العاطفة. إن الغاية النهائية التي يسعى البوذيّ إليها هي أن يقوم بتجريد ذاته من العاطفة والشخصية لكي يصل إلى الإندماج مع الخواء العظيم (النيرڤانا)، وبالتالي فإنَّه يكسر عجلة إعادة الولادة والتقمص.

الخطيئة

إن المفهوم البوذي عن الخطيئة يُعرف تحت مسمى ”تانها“ (Tanha)، وهي الكلمة التي تتم ترجمتها عموما على أساس أنها تشير إلى ”الشهوة“ ويُراد بها الشهوة والرغبة التي تطفو في حياة المرء. في المقابل من ذلك نجد أن التعليم المسيحي يرفض وسم جميع الشهوات على أساس أنها خاطئة، إذ أن الشهوات التي تهدف إلى إرضاء الذات هي التي تُخالف الشريعة الأخلاقية الإلهية. إضافةً إلى ذلك، إن المسيحية تُحافظ على التعليم القائل بأنَّ الخطيئة هي ”مُتأصِّلة“ و”فعليّة“، ويُراد بذلك أن الخطيئة هي جزء من طبيعة الإنسان ومن تصرفاته. إن البشر - بعد سقوط آدم وحوّاء - باتوا يُولدون في الخطيئة ويحيون في حياة تمرّد على الإله الحي.

المسيحية واليهودية تقبلان أربعة من الوصايا العشر البوذية وهي تحريم كُل من: السرقة، القتل، الزنى والكذب. إلا أنَّ الوصايا البوذية التي تُحرم مُخالفة الصوم الإلزامي، الرقص، أو النوم على فراش وليس على الأرض فإنها لا تُخالف الشريعة الإلهية الأخلاقية المُعلنة في الكتاب المقدس، ولذلك فإنه لا يتم النظر إليها على أساس أنها خطايا. إن الفكر المسيحي يُعلم بأنَّ الخطيئة هي مُخالفة للوصايا الإلهية التي اختزلها الرب يسوع المسيح بوصيتين هما: محبة الله، ومحبة القريب.

الخلاص والحياة المستقبلية

تاريخياً، لم تكن البوذيّة ديانة تبشيرية، مما يعني أن الجهود التبشيرية كانت شبه منعدمة، إلا أننا نشهد تصاعداً ملموساً في الآونة الأخيرة في عدد المدارس المُختلفة التي باتت تُنافس المسيحية في التبشير. يرتكز مفهوم الخلاص في البوذية على مجالين مركزيّين، أولهما هو التحرر من دورة إعادة الولادة، أو الوصول إلى ”عدم الوجود“. نقرأ في الڤينيا بيتاكا: ”من خلال القضاء على العطش (تانها - Tanha)، يُقضى على الصِلات، وينتهي الوجود“. المجال الثاني هو الخلاص على أساس بناء الشخصية والمكانة الأخلاقية من خلال إتمام مُتطلبات الشرائع والمواظبة بحماسة على اتِّباع المسلك الثُمانِيّ الخُطى. يجب أن يتم تحقيق الخلاص من قِبَل البوذيّ بشكل شخصي دون أيّ مساعدة من أي مصدر خارجيّ. يرد في التقليد البوذي قولاً لبوذا يُعَلِّمُ التالي: ”الشخص ذاته هو من يفعل [يأتي بـ] الشر؛ الشخص ذاته هو من يتسبب لذاته بالمعاناة؛ الشخص ذاته هو من يترك الشرّ دون إتمام؛ الشخص ذاته هو من يُطَهِّر ذاتَه. هوذا إذاً، لا يوجد أي إنسانٍ قادر على تطهير آخر“.

يُظهر التعليم السابق التناقض بين البوذية والمسيحية بشكل واضح وجليّ. خلافاً لما يتم تعليمه في البوذية عن تحقيق المرء للخلاص الذاتي، فإن المسيحية تُعلِّم أن الله أرسل ابنه الوحيد، يسوع المسيح، إلى العالم ليحيا حياة البرّ الكامل دون أيّ خطيئة، ويموت على الصليب تكفيراً عن خطايانا، ويقوم من بين الأموات لكي يُتَمِّم بذلك العملَ الكفاريّ مُعلنا الإنتصار على الموت. إن المؤمن المسيحي لا يقوم بالنظر داخل ذاته من أجل البحث عن الخلاص وتحقيقه، إنما ينظر بالإيمان إلى ما يتعدى ذاته، إلى المسيح يسوع الذي هو الوحيد القادر على تحقيق الخلاص. ونجد في المقطع الثالث من قانون إيمان الرسل تلخصياً مُختزلاً للتعليم المسيحي عن الخلاص: ”أؤمن … بالكنيسة المُقدَّسة الجامعة. وبشركة القدِّيسين. وبمغفرة الخطايا. وبقيامة الجسد. وبالحياة الأبديَّة. آمين“. كما ونقرأ في رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس ٢: ٨-٩ ”فبِنِعمَةِ اللهِ نِلتُمُ الخَلاصَ بالإيمانِ. فما هذا مِنكُم، بَلْ هوَ هِبَةٌ مِنَ اللهِ، ولا فَضْلَ فيهِ لِلأعمالِ حتى يَحق لأحدٍ أنْ يُفاخِرَ“. (الترجمة العربية المشتركة). وبالتالي فإن الكنيسة تتكون من ”شركة القديسين“ أي أولئك الأشخاص الذين أصبحوا مؤمنين، والذين من خلال الإيمان غُفِرَت لهم خطاياهم واعتمدوا على اسم الآب والإبن والروح القدس. وفي المجيء الثاني للرب يسوع المسيح، سيقومون من بيت الأموات لحياة أبدية في الأجساد المُمَجدة العديمة الفساد.

يتناقض هذا التعليم مع التعليم البوذي عن الخلاص من نواحي مُختلفة. أولاً، كما سبق ورأينا فإن الخلاص، وفق التعليم المسيحي، يكمن في شخص وعمل يسوع المسيح. أما بالنسبة للتعليم البوذي، فإن المرء هو من يصل بذاته إلى الخلاص من خلال المجهود والعمل الذاتي والسعي الجّاد لمتابعة السير وفق المسلك الثُمانيّ الخُطى. ثانياً، إن الموت بالنسبة للمسيحي هو مرحلة انتقالية فورية إلى التواجد في حضرة الله. إلا أن الأمر مُختلف بشكل كامل في التعليم البوذيّ، فالموت هو عبارة عن جزء منفرد في سلسلة تنطوي على عدد من المِيتَات وإعادة الولادة. ثالثاً، إن قيامة الأجساد التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من العقيدة المسيحية، لا تمتلك مكاناً لها في الفكر البوذيّ. إذ أن التعليم البوذي ينظر إلى الجسد على اساس أنه إناء يحمل ما هو دائم، ويتم التخلص من هذا الإناء (الوعاء) في أثناء اقتراب المرء من خاتمة دورة إعادة الولاد.

يوجد اختلاف بين بوذية الماهايانا وبوذية الثيرڤادا حيال التعليم عن الخلاص، إذ يعتقد البوذيّون في الماهايانا أن بوذا (الذي يدعونه بوديسات) هو حيّ حالياً في عالم سماوي في انتظار أن يتجسد متخذاً صورةً بشريةً، ويتم توجيه الصلوات والعبادة له. قد تكون هذه النقطة من أكثر النقاط تشابهاً مع المسيحية في نواحٍ متعدِّدة حيث يُعتقد أن البوديسات قد امتلك وجَمَعَ كمّاً كبيراً من الإستحقاقات التي يُمكن أن يتم استخدامها من قِبَل أولئك الذين يقدمون له طقوس العبادة ويؤمنون به، في المقلب المُقابل نجد أن العمل الكفاري للمسيح وبِرَّه هو ما يُبَرِّر الخاطئ الذي يلجأ إليه بالإيمان. ثانياً، يوجد تجسد مستقبلي للبوديسات، وهو ما يتشابه مع ما فعله يسوع. أخيراً، تتشابه بوذية الماهايانا مع المسيحية في الإيمان بوجود عالم سماوي، وذلك على الرغم من أنَّ الأمر يبدو متناقضاً في البوذية التي تُعرف بأنها نوع من أنواع الإلحاد العملي.

الأخلاق

كان النظام الأخلاقي البوذي قد نشأ وتطور كنوع من أنواع ردّ الفعل على الهندوسية، حيث قامت البوذية بتقديم نظام المساواة بين طبقات المجتمع كردّ على النظام الطبقي الهندوسيّ الذي يصنف الأفراد في فئات مُجتمعية عُليا وأُخرى دُنيا. كما يُوجد تركيز في النظام الأخلاقي البوذي على الحالة الداخلية للإنسان التي تمتلك الأهمية الكُبرى دوناً عن المظهر الخارجي المُتمثل بالطقوس والممارسات التعبّدية. وبشكل مُشابه للمسيحية، يُنظر إلى المحبة على أنها المبدأ الأسمى للسلوك الأخلاقي الذي يجب الحياة وفقه في النظام البوذيّ، إلا أنَّ المنظور الأخلاقي البوذي للمحبة يفتقد لأخلاقيات محبة الله. إذ يُنظر إلى المحبة على أنها وسيلة للإنتصار على الحقد والشرّ.

يظهر تباين واضح بين البوذية والمسيحية من ناحية اختلاط القوانين الأخلاقية مع الواجبات الطقسية في البوذية. إذ نجد أنَّ وصية تحريم القتل أو السرقة متموضعةً في المكانة جنباً إلى جنب مع الوصية التي تُحرِّم النوم على سرير مرتفع عن الأرض، أو تُحَرِّم تناول الأطعمة في أوقات الصوم الإلزامي. أما في المسيحية فإن العمل الكفاري الذي أتمَّه المسيح قد أنهى العمل بالشرائع الطقسية التي كانت ظِلاً لهذا العمل الخلاصي (كولوسي ٢: ٢٠-٢٣). وأمسى المسيح الأساس والإفتراض المُسبق الذي تُبنى عليه جميع الأخلاقيات، وحين يتم مخالفة إحدى الوصايا أو ارتكاب خطيئة ما، يُمكن للمؤمن أن يتوب لينال الغفران من المسيح الذي مات عن الخطيئة (يوحنا الأولى ١: ٩). ولا يوجد ما يقابل هذا التعليم في البوذية.

الخُلاصة

تنقسم البوذية إلى العديد من الفرق والمجموعات المنبثقة عنها، إلا أنَّ المجموعتان الرئيسيتان هما الماهايانا والثيرڤادا، وتتوزعان جغرافياً بين شمال القارة الآسيوية وجنوبها. نالت البوذية شهرة واسعة وحققت انتشاراً واسعاً خلال السنوات الأخيرة، في مناطق مُختلفة من العالم، كما تلقت بعض الإضطهاد في بعض الدول مثل سيرلانكا والصين.

ينجذب الكثير من الأشخاص من مختلف الخلفيات الدينية والثقافية إلى مُختلف جوانب الفلسفة والديانة البوذية، ويُمكن أن يتم إرجاع انجذابهم هذا إلى حقيقة كون الرسالة التي تنقلها هذه الفلسفات تتعامل مع الإحتياجات الحضارية المُعاصرة، إذ أنَّ الناس يدركون حاجتهم إلى الحقائق الروحية، وفي ذات الوقت نجد أن العديد من الكنائس المسيحية لا تقوم بتقديم إنجيل يسوع المسيح بطريقة أمينة تتعامل مع الواقع والمشكلات الراهنة. إن تبني العديد من المسيحيّين لجوانب من الفلسفات البوذية يرجع بشكل رئيسي إلى أنَّهم لم يسمعوا رسالة الإنجيل بحقّ، لذلك فإنَّه من الضروري أن يقوم الرّعاة والمؤمنون بالتنبه إلى انتشار هذه الأفكار في أوساطهم لمكافحتها من خلال تقديم رسالة إنجيل النعمة بأمانة.

معلومات إضافية

مواقع الكترونية:

www.Buddha.net

www.buddhistchurchesofamerica.com

النصوص المُقدسة

سوترا بيتاكا (Autra Pitaka)، ڤينايا بيتاكا (Vinaya Pitaka)، وأبيدارما بيتاكا (Abhidharma Piraka).

الأعضاء

تحتل البوذين المرتبة الرابعة بعد المسيحية والهندوسية والإسلام، حيث يُعتقد بوجود ٣٢٩ مليون معتنق للبوذية. وتنال مجموعة الماهايانا النصيب الأكبر بنسبة تصل إلى ٥٦ بالمئة من مجموع البوذيّين في مُختلف أرجاء العالم بتعداد يصل إلى ما يقرب من ١٨٥ مليون شخص. أما الثيرڤادا فتنال نصيباً يصل إلى نحو ٣٨ بالمئة من مجموع البوذيّين بتعداد يصل إلى ما يقرب من ١٢٤ مليون. أما الڤاجرايانا (Vajrayana) - أو بوذية التيبيت، فتتحصل على ما يقرب من ٦ بالمئة من المجموع العام للبوذيّين بتعداد يصل إلى ما يقرب من ٢٠ مليون بوذيّ.


المراجع

  • C. Stephen Evans, Pocket Dictionary of Apologetics & Philosophy of Religion. (Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 2002), 18.
  • Stanley Grenz, David Guretzki, and Cherith Fee Nordling, Pocket Dictionary of Theological Terms. (Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 1999), 16, 101.
  • Sinclair B. Ferguson and J. I. Packer, New dictionary of theology, 2000, 112–114.
  • Walter Martin, The Kingdom of the Cults: The Definitive Work on the Subject. (Grand Rapids, MI: Bethany House, 2019).
  • Ron Geaves, Continuum Glossary of Religious Terms, 2002, 38–39, 420.
  • Catherine Soanes and Angus Stevenson, Eds., Concise Oxford English dictionary, 2004.
  • Edward Byles Cowell, A Dictionary of Christian Biography, Literature, Sects and Doctrines, 1877–1887, 1, 340–356.
  • Allen C. Myers, The Eerdmans Bible dictionary, 1987, 91.
  • Larry A. Nichols, George A. Mather, and Alvin J. Schmidt, Encyclopedic Dictionary of Cults, Sects, and World Religions, 2006, 40-44, 362, 364, 366, 371, 373, 375, 390-391, 397, 399, 408, 413, 438, 453, 457-458, 461,
  • Arthur Anthony Macdonell, Encyclopædia of Religion and Ethics, 1908–1926, 12, 601.
  • Vincent A. Smith, Encyclopædia of Religion and Ethics, 1908–1926, 2, 124–127.
  • T. C. Hall, C. A. F. Rhys Davids, E. Anwyl, O. Zöckler, W. Capelle, A. S. Geden, Michel Revon, A. E. Suffrin, Reynold A. Nicholson, Nathan Söderblom, J. S. Reid, and George A. Barton, Encyclopædia of Religion and Ethics, 1908–1926, 2, 69–71.
  • L. de la Vallée Poussin, Encyclopædia of Religion and Ethics, 1908–1926, 2, 739–740.
  • H. Jacobi, Encyclopædia of Religion and Ethics, 1908–1926, 2, 799–800.
  • A. S. Geden, Encyclopædia of Religion and Ethics, 1908–1926, 2, 881–882.
  • Isidore Singer, Ed., The Jewish Encyclopedia: A Descriptive Record of the History, Religion, Literature, and Customs of the Jewish People from the Earliest Times to the Present Day, 12 Volumes, 1901–1906, 2, 165.
  • Douglas Mangum, The Lexham Glossary of Theology. (Bellingham, WA: Lexham Press, 2014).
  • David Witthoff, Ed., The Lexham Cultural Ontology Glossary. (Bellingham, WA: Lexham Press, 2014).
  • Nathan P. Feldmeth, Pocket Dictionary of Church History: Over 300 Terms Clearly and Concisely Defined, 2008, 18.
  • Winfried Corduan, Pocket Guide to World Religions, The IVP Pocket Reference Series. (Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 2006), 25–37.
  • Leo J. Green, The teacher’s Bible commentary, 1972, 450.
  • Donald K. McKim, The Westminster Dictionary of Theological Terms, Second Edition, Revised and Expanded. (Louisville, KY: Westminster John Knox Press, 2014), 21, 266.
  • إن لم يُذكر خِلاف ذلك، فإنّ الصور المرفقة غير خاضعة لحقوق الملكية وهي متوفرة من خلال مكتبة ويكيبيديا.